في قلب أكثر الصحارى اتساعًا على وجه الأرض، وبين كثبان الرمال الممتدة حتى الأفق، قرر مواطن سعودي أن يجعل من صحراء الربع الخالي كتابًا مفتوحًا للبحث والتأمل والاكتشاف. ناصر الوهبي، البالغ من العمر 49 عامًا، لم يرَ في تلك المساحة المهولة مجرد تحدٍّ جغرافي أو منفى رمليّ قاحل، بل فسحة من الدهشة والمعرفة ومسرحًا لتوثيق أعظم ما خفي من أسرار الطبيعة.
الربع الخالي.. مختبر الطبيعة الهادئة
الوهبي يرى أن صحراء الربع الخالي ليست ميدانًا للتحديات المتهورة كما يظن البعض، بل فضاءً للتأمل العميق، فهي تغطي نحو 430 ألف كيلومتر مربع داخل حدود السعودية وحدها، وتشكل 67.7% من التجمعات الرملية في المملكة، بمساحة تفوق دولاً كاملة مثل إيطاليا أو بولندا.
قضى ناصر أكثر من ثلاثة عقود في الترحال داخل هذه المساحة، متجنبًا الاعتماد الكامل على التقنية، وداعيًا إلى إعداد خطط طوارئ بديلة، واصفًا الربع الخالي بأنه “مختلف تمامًا”، إذ يمكن أن تتعطل الأجهزة أو ينقطع الاتصال، وهو ما يجعل الجهل بهذه البيئة كارثيًا، بل ومميتًا أحيانًا.
اكتشافات علمية وأثرية فريدة
رحلات ناصر لم تكن عبثية أو سياحية، بل مثّلت مسارًا بحثيًا موثقًا، تخلله اكتشاف نبع مياه كبريتية نادر، وأشجار متحجرة تعود إلى ملايين السنين، إضافة إلى نباتات وفصائل نباتية لم يكن يُتوقع وجودها في بيئة قاحلة بهذا الشكل. كما وثّق آلاف المواقع الجغرافية بمساعدة مرشدين محليين معتمدين، مدونًا إحداثياتها، وأسمائها المتوارثة، وما ارتبط بها من قصائد ومرويات شعبية، خاصة تلك المتعلقة بموارد المياه.
وفي واحدة من أهم المشاركات البيئية، ساهم الوهبي في أول مبادرة رسمية لإعادة تأهيل واحات الربع الخالي، عبر نثر أكثر من 22 مليون بذرة، بإشراف المركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي ومكافحة التصحر، وتنفيذ مؤسسة “مروج”، ما يعكس التقاء شغفه بالترحال مع مساهمته العملية في الحفاظ على البيئة.
الربع الخالي… كان أخضر
اكتشافات الوهبي تزامنت مع دراسة علمية أجرتها جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست)، كشفت أن صحراء الربع الخالي لم تكن دومًا على ما هي عليه، بل كانت في حقب ماضية موطنًا لبحيرات وأنهار وأراضٍ عشبية خضراء. فقد مرّت المنطقة بفترة مناخية تُعرف بـ”العربية الخضراء” بين 11000 و5500 سنة مضت، شهدت خلالها وفرة بالأمطار الموسمية الغزيرة القادمة من أفريقيا والهند، ما ساعد على ازدهار بيئي ملحوظ في قلب الصحراء.
أساطير الرمال… وتصحيح المفاهيم
ومن أكثر المفاهيم المغلوطة التي سعى الوهبي إلى تصحيحها، الاعتقاد الشائع بأن الرمال المتحركة في الربع الخالي تبتلع البشر، وهو ما وصفه بأنه خرافة لا أساس لها من الصحة، مؤكدًا أن هذه الصحراء لا تخلو من المخاطر، لكنها لا تشبه الصور الأسطورية المنتشرة عنها.
مسافات لا تُحصى
تنوّعت مسافات رحلات ناصر الوهبي بين القصيرة، التي بلغت نحو 4000 كيلومتر، والطويلة التي وصلت إلى 13 ألف كيلومتر في كل مرة، شملت جميع مناطق الربع الخالي داخل الأراضي السعودية، فيما اكتفى بتوثيق عام لأطراف الصحراء في الدول المجاورة مثل سلطنة عُمان، واليمن، والإمارات.
الوهبي… صوت الصحراء وعينها
في رحلة امتدت لأكثر من 30 عامًا، لم يكن ناصر الوهبي مجرد رحّالة، بل باحثًا ومؤرّخًا ومحبًا لطبيعة تُخفي وراءها طبقات من التاريخ والجمال. وهو من بين قلائل منحوا هذا الامتداد الرملي الفريد صوتًا وأرشيفًا، وقدموا له صورة جديدة، مختلفة عن الرؤية النمطية التي اختزلته في القحولة.
بصمته، كما الرمال التي تتبدل مع كل نسمة، لكنها لا تزول، تبقى محفورة في ذاكرة الربع الخالي.
ظهرت المقالة ناصر الوهبي… مستكشف الربع الخالي الذي قضى 33 عاماً بين أسرار الرمال أولاً على أحداث العرب.